“قريبا من الخشبات.. بعيدا عنها” لعبد الواحد عوزري: تأريخ لتجربة إبداعية متميزة

الطاهر الطويل

يأتي كتاب “قريبا من الخشبات، بعيدا عنها” الصادر حديثا للفنان المسرحي عبد الواحد عوزري، بمثابة “مونوغرافيا” تؤرخ لتجربة إبداعية متميزة وسمت المشهد المسرحي المغربي والعربي لعدة سنوات، كما تجسد هذه “المونوغرافيا” نظرة صاحبها إلى الواقع المسرحي والثقافي عموما في المغرب وفي أقطار أخرى. وتنبع أهمية الكتاب من حيث كون مؤلفه جمع بين الممارسة الفعلية للمسرح على مستوى الإخراج، وبين الكتابة والبحث الأكاديمي والاشتغال الإعلامي إن على مستوى النشر في منابر متعددة، أو على مستوى التلفزيون من خلال تقديم برنامج مسرحي شهري والسهر على انتقاء العروض المسرحية لفائدة القناة الأولى المغربية.
يبدأ المؤلف بإثارة إشكال مهم قائلا: “كثيرا ما يبحر بنا السؤال حول ما إذا كان المسرح فنا ضروريا لمجتمع ما، وبالتالي هل الكتابة عنه أو ممارسته حاجة لا بد منها لمن له هذه اللوعة الجميلة الدائمة؟ حتى وإن بقيت الأجوبة مؤقتة، مهما تعددت صيغها، فإننا نفكر في هذا الكتاب وكأنه محطة أخرى من محطات التيه الواعي نحو المسرح الذي نسمو إليه.”

مسارات

ينقسم الكتاب إلى عدة أبواب، من ضمنها باب يحمل عنوان “مسارات”، ويتحدث فيه المؤلف عن مختلف الأعمال التي قدمتها فرقة “مسرح اليوم” التي أسسها عبد الواحد عوزري بمعية زوجته الفنانة الممثلة ثريا جبران، وذلك منذ سنة 1987 إلى 2004، حيث يتوقف مؤلف الكتاب عند خصوصية كل عمل مسرحي ويبرز قيمته الإبداعية وملامح خطابه المسرحي، مع ما رافق ذلك من علاقات إنسانية وفنية نسجت مع المشاركين في الإبداع المسرحي. “كل عمل مسرحي هو أولا وقبل كل شيء فرصة للقاءـ في هذا الصدد نتحدث دائما عن اللقاء بالجمهور، وكثيرا ما ننسى أن اللقاء الأول هو اللقاء بين المبدعين المساهمين في العمل.”
وهكذا نقرأ: “حكايات بلا حدود”: باتجاه مسرح مختلف، “بوغابة”: لنحلم بالمسرح، “نركبو لهبال”: ليستمر العرض، “النمرود في هوليود”: ويبقى المسرح، “سويرتي مولانا”: وراء الغيمة شعاع، “الشمس تحتضر”: مغامرة الشعر، “أيام العز”: معنى أن تكون في مغرب راهن، “اللجنة”: المسرح ذاكرة العصر، “امتا نبداو امتا”: في سفر جديد، “البتول”: عن ضرورة المسرح، “العيطة عليك”: رهين المحبسين، “امرأة غاضبة”: نفس كوني بلسانين، “الجنرال”: نحو مسرح لليوم والمستقبل، “أربع ساعات في شاتيلا”: المسرح مرة أخرى المسرح دائما، “ياك غير أنا”: سخرية الأقدار والكلمات.

قضايا

وضمن باب “قضايا”، يتناول المؤلف مجموعة من القضايا المسرحية والثقافية، فيستحضر بعض أمجاد المسرح “البلدي” في الدار البيضاء، مؤملا بأن يكون لإعطاء انطلاقة بناء المسرح الكبير لهذه المدينة دور في استعادة تلك الأمجاد وإحداث نهضة مسرحية جديدة. كما يحلل بعض معالم التاريخ المشترك الذي يجمع المسرح المغربي بالمسرح الإسباني، ويقدم معطيات وتوضيحات عن استقبال العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني لعدد من المسرحيين المغاربة (وكان عوزري ضمنهم) عام 1991، حيث جرت مناقشة أوضاع المسرح المغربي؛ ويحاول المؤلف أيضا الإجابة على سؤال: هل هناك فعلا هوية فرنسية صرفة؟

قراءات

وفي باب “قراءات”، يقدم عبد الواحد عوزري مقاربته لكتاب “الشيطان هو الضجر” لبيتر بروك، فيؤكد أن “الحياة في المسرح أكثر رؤية وقابلية للقراءة أكثر من خارجه، ولو أنها تعطي الانطباع بأنها نفس الشيء، فهي شيء آخر. الحياة في المسرح مركزة في تقليص الفضاء والكلمات. إذا تكلم شخصان في الحياة ثلاث ساعات لقول شيء ما، ففي الخشبة لن يدوم هذا الأمر إلا ثلاث دقائق.” وبعد ذلك يحلل نماذج من “الكتابة المسرحية الجديدة بالمغرب”، كما يغوص في أبعاد مسرحية “كاتارسيس” لمحمد بهجاجي، ثم يتوقف عند الفنان الراحل الطيب الصديقي مبرزا مكانة صاحب “مسرح الناس”، من خلال كتابين للإعلامي والكاتب والجامعي حسن حبيبي صدرا باللغتين العربية والفرنسية تحت عنوان: “الطيب الصديقي، المشهد الآخر”، “A Dieu l’artiste”، وقد ساهم في الكتابين مجموعة من الباحثين والنقاد وأصدقاء الفقيد عبر دراسات وشهادات وتحليلات قيمة، تأكد من خلالها أن “المبدع لا يموت ما دامت إبداعاته بيننا تذكرنا بلمساته، بعشقه لفنه، بتفانيه من أجل أن يكون للمغرب مسرح في مستوى طموحه وطموح كل الأجيال القادمة.”

شهادات

أما باب “شهادات” فيخصصه المؤلف للحديث عن رفاق في الدرب ممن ما زالوا يحملون المشعل، ومنهم من انتقل إلى دار البقاء، فنقرأ: دام لنا غناء ناس الغيوان، لطيفة الجبابدي: امرأة في حجم تطلعاتنا في الماضي وفي المستقبل، السلام عليك الطيب الصديقي مبدعا خالدا، متفرج اسمه فرانسوا ميتيران، فلسطين التي… (وحكاية لقاءات المؤلف مع محمود درويش).
يعقب ذلك نص حوار أجراه الكاتب والصحافي محمد بهجاجي مع عبد الواحد عوزري، متناولا فيه قضايا تتعلق بفرقة “مسرح اليوم” خصوصا والمسرح المغربي عموما، وأيضا بالسياسة الثقافية في المغرب وبعلاقة المسرح بالتلفزيون. وفي الحوار، يجيب عوزري عن سؤال حول ابتعاده عن الإخراج موضحا: “إنني لم أهجر عالم المسرح ولا ناسه ولا أهله وخشباته، بل ظللت وفيا لاختياراتي الأولى ما استطعت، ولكن من زوايا مختلفو. وبوسعي اليوم أن أطوف كل المغرب، وأعرف كل التفاصيل الدقيقة عن كل الاجتهادات المسرحية هنا وهناك. ويحدث كذلك أن أسافر خارج المغرب بنفس الشغف ونفس المتابعة.”

جنون يقول الحكمة

وتحت عنوان “أفقنا المشترك”، يتصدر الكتاب تقديم بقلم الفنانة ثريا جبران (وزيرة الثقافة سابقا)، تحكي فيه عن علاقتها بزوجها المخرج عبد الواحد عوزري، قائلة: “منذ نسجت صداقة العمر مع عبد الواحد عوزري، في منتصف الثمانينيات، ونحن نتقاسم الروح التي تراهن على مسرح يختلف عن التجارب الأخرى، لكنه يشبهنا معا، لأنه منضبط على إيقاع إيماننا بالمستقبل، وبوطن مغربي ناهض. مسرح ينتصر للجنون الذي يقول الحكمة، وللجمال المولد للمعنى الذي يحيي فينا الإحساس بمتعة الفن والأدب والحياة. وهي نفسها الروح التي جعلتنا نؤسس تجربة مسرح اليوم المتميزة في الرصيد المسرحي الوطني والعربي، بما أرسته من تقاليد على مستوى التدبير والتنظيم والترويج، وبما قدمته من احتفاء بالمبدعين المغاربة والعرب، وبالمسرح والشعر والرواية والشهادة… وذلك ضمن رحلة شاقة وممتعة، في نفس الوقت، بحثا عن مضامين وأشكال جديدة تجسد أحلامنا المشتركة، وتخلق جسورا للحوار والتفاعل مع الثقافات الأخرى.”
وتضيف ثريا جبران: “بهذه الروح أيضا عشت الانشغالات الفكرية والنقدية لعبد الواحد عوزري التي كانت ثمرتها الأولى أطروحته الجامعية التي صدرت، ضمن منشورات دار توبقال، في كتاب بعنوان “المسرح المغربي، بنيات واتجاهات”، وثمرتها الثانية كتاب “تجربة المسرح” عن نفس الدار. وها أنا أسعد اليوم بصدور “قريبا من الخشبات، بعيدا عنها” عن دار النشر المغربية، حيث يواصل عبد الواحد تأملاته العميقة وقراءاته لجديد الإبداع المسرحي، سواء ما يهم الجوانب الأدبية والجمالية المرتبطة بالمسرح، أو تلك التي تهم انشغالاته بتحولات الفن والسياسة والحياة، إضافة إلى شهادات عن أصدقاء وفنانين مناضلين بعضهم أسلم الروح إلى خالقها، وبعضهم لا يزال يتمرن بيننا على نعم الحياة الجميلة.”
وتحرص ثريا أن تعبر عن سعادتها المضاعفة لأنها كانت “الشاهد على انبثاق كثير من مواد هذه الكتاب التي كتبت في حضرتي (كما تقول) أو في سياقات قريبة مني. ولقد كان عبد الواحد يشاركني مخاض التفكير والكتابة والقراءة وإبداء الرأي في كل ما يتعلق بانشغالاتنا الفنية المشتركة.” وتؤكد أن عوزري “كان يحرص دائما على أن تكون مقارباته للشأن المسرحي قائمة على مبادئ الصدق والنزاهة والوفاء للمسرح والمسرحيين، وهي المبادئ نفسها التي كان يعمل في ضوئها كمخرج لمسرح اليوم.”
ومن ثم، ترى صاحبة التقديم أن هذا الكتاب يشكل إضافة قيمة للجهود الجبارة التي قام بها الباحثون والكتاب المغاربة من أجل تطوير مستوى البحث في الجانب المسرحي. كما يشكل تمثلا لأهم المسارات التي كان على المسرح المغربي أن يعبرها، منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، حتى يصبح حاملا لهذا الوعي الذي نستمر بفضله كواحد من مبررات وجودنا. كما تعتبر ثريا جبران الكتاب “تجليا آخر لذلك الأفق المشترك الذي يجعل الحياة أليفة بيننا، ويمنحنا الصبر والثبات، لنواصل تجربة الفن والحياة، بحسب تعبيرها.
تبقى الإشارة إلى أن كتاب “قريبا من الخشبات، بعيدا عنها” الواقع في 158 صفحة من القطع المتوسط، صدر عن دار النشر المغربية في مدينة الدار البيضاء.

ذات صلة